هل ستتأخر عندهم ؟! !
أحس بدبيب الكلمات التي اختلطت مع وشوشة المذياع لكنه بذكاء البدوي اختطف المعنى بالإيحاء وقال يجب عليك أن تكف عن حساب الوقت لأننا لسنا في مباراة ( قالها على طريقته ) ثم بهمزة من إصبعه خنق شلال الموسيقى تأهباً للوقوف ، وعلى خشخشة السيارة حال توقفها المفاجئ استيقظ الخفير ، وأوعز لنا بالدخول بإشارة باردة . قال السائق الذي كان جهته : \\\\\\\\\\\\\\\"لو جاء المفتش ونزع برنيطتك لدفعت ثمن هذه الغفوة في الزنزانة أيها المعتوه \\\\\\\\\\\\\\\"!.
انتفض حين داهمه الصوت ، وهب من كرسيه الأجرب ، ونزل عن الدرجات القليلة باتجاهنا وصاح بفرح الطفل عندما يباغت :- هذا أنت ؟! أينك طوال هذه المدة ؟ أين آنا يا ترى ، قاطع طريق ، أكون حيث تكون الغنيمة أكثر دسماً ، وحسب ! فكرت أن أصلي عليك صلاة الغائب ، إذ اعتقدت أنك مت على هذه الطريق الخائنة . ناوله السائق رشوة العبور ، وهم أن يشعل له سيجاره ، لكنه التقطها تعبيراً عن عدم الرغبة في التدخين ، وحشرها خلف أذنه .. واضعاً النقود تحت القبعة بخفة تنم عن الخبرة والاحتراف :
ستمطر إذن ، طالما فكرت بالصلاة أيها الفاسق !
وكانت تمطر حقاً حينما أطلق الرجلان ضحكتين مجلجلتين في هدوء الليل البارد . انطلقنا ، وجاء الصوت من خلفنا : (( سأعتقلك حتى تتبول في ملابسك لو نسيت الفيديو في المرة القادمة ))!
التفت السائق إلي وهو يحاول أن يتخلص من وصلة الضحك قائلاً : المهم أنه صحا .وخزتني شوكة حسد على فوية تحياتهما التي كانت أكثر من عناق ، وتراءت لي مكاتب الموظفين الشاحبة وصباحا تهم المأهولة بالنفاق .
-يبدو أنك تعرفه ؟!
-بلى . أعرفه حق المعرفة ! هل معك ممنوعات ، أو كتب مثلاً ؟!!
-لماذا تسأل عن الكتب بالذات ؟ قال حتى لا نبيت عندهم.
-وهل تعتقد أننا سنتأخر كثيراً ؟! أم نحن وشطارتنا ؟!
-بل نحن وحظنا (!!).
***
أعتقوك أخيرا ؟!
أجاب الرجل العجوز وهو يغادر الصالة رداً على محدثه الذي كان ينتظره عند الباب : ليس بي جهد لأهرب .. إن نملة صغيرة تستطيع القبض علي ، أنا الذي وهن العظم مني ، وصار علي أن أستجمع كل قواي من اجل أن أبصق . أيعقل أن أقتل أحداً أو أنسف مصلحة حتى يوقفوني زهاء ساعة للتحقيق معي أمام الملأ . إن مجرد ارتداء القميص يشكل بالنسبة لي أحد الأعمال الشاقة .
وكان واقفاً يتمخط فعلاً ، ويحاول بكل صعوبة أن يبصق . ومضى – ربما إلى الأبد – لكن وجهه المكسور تحت الامتعاض ظل يطاردني كقنديل الحكمة : (( لن يفلتوك حتى يتقوض آخر حجر في قلعة كرامتك )).
همسني ونحن ندلف إلى الصالة , وبدوري ناولته النقود ، قال إلى سبيل الاعتذار :
نحن غير ملزمين بالدفع لكننا أمام هذا الزحام مضطرون لتفادي بعض الصعوبات ، ثم أضاف : السفر مهنة واطئة تضطرك أن تتوسل أوسخ الناس . وأشرف لك أن تشتغل بدلاً عنها في التهريب . رمى جملته الأخيرة واختفى في طوفان البشر ، بينما كنت أنقب عنه من أجل مواجهة أية مصادفة محتملة ، وأشعلت السيجارة لمقاومة البرد ليس إلاّ .
***
لم يكن العثور على دورة المياه صعباً ، رغم الزحام وقلة المنافذ ، وخشونة المسافرين الذين يبدون غير عابئين بتقديم أية خدمة ، حتى لو كانت هذه الخدمة إسعاف إنسان يحتضر ، فمن خلال زوبعة الذباب اهتديت إليها بدون عناء . وفي المرحاض كنت مشغولاً بالعثور على كلمة أكثر قذارة لترجمة هذا المكان ، من الفراغ الذي يعلو الحاجز جاء الصوت من ( القاطن ) في الحمام المجاور بعدما تناهى إلى سمعه فرقعة مفاصلي جراء وطأة السفر وألم الطريق :
(( …………………………………………))
(( …………………………………………))
وحدث أن تعارفنا ؛ تبادلنا العناوين ، وأرقام الهواتف سريعاً ، وحمدنا الله على أن أحدنا لم يكن مخبراً
***
فجأة لمحت السائق يحاول أن يوقظ شاباً مرميا في زاوية الصالة مثل بالة التبن وحوله بضعة أسطر من القيء الضارب إلى الحمرة ، مشطت جسمه الواهن بنظرة رثاء ، وسألت :
-هل تعرفه هو الآخر أيضاً ؟
نهرني قائلاً : يعني أكان لابد أن أعرفه !!
-يبدو ، ربما ميتا ، فما شأنك به ؟
والتفت نحوي باستغراب : كان قبل قليل يرفع عقيرته بالغناء ويطلب النخوة . أين كنت إذن ؟! في الحمام . وتجاسرت عليه لأضيف : إن كنت مفتوناً بنخوة الرجال فهيا خلصني . لعله يفيق بعد أن تقيأ . وكانت رائحة القيء كافية لتفسير الحالة . وعند هذه اللحظة كان الشاب يفتح عينيه ، يحدق فينا بامتنان ، وعلى سيماه تلوح إمارات
الإحساس بالعار . حد جنى السائق قائلاً : وأنت هل أفقت ( يقصد هل فهمت ) ؟! فقلت : يتعين عليك أن تعمل مراقباً للعسس ، أليس كذلك ؟ من يعمل سائقاً يصلح إن يقوم بأي عمل مهما كان شاقاً .
قالها بطريقة حادة تدل على الولاء للمهنة والفخر بكل صعوباتها
***
أليس غريباً هذا الزحام في البرد ؟
إنه برد الجمارك ، يا حبيبي ، فهناك ستمل من الدفء .
أعني أنه ليس موسم سياحة !
كل ما في الأمر أن الناس بعد رمضان مثل الجمال الهاملة . ينتظرون إجازاتهم بفارغ الصبر ، كان الله في عونهم ، ألست موظفاً ؟ بلى . هل سيعتقلون الشاب برأيك ؟! أبداً ، ففي هذا المكان ادفع بالتي هي أحسن، وتوكل على الله . حسناً وأنت ألم تعطهم النقود بعد ؟ بلى ، ولكن هل تريدهم أن يعتبرونا دبلوماسيين ويفتحون لنا الطريق من اجل دراهم قليلة !
ولما رفع الموظف قبضته عن الجواز ، ومهره بتوقيع أشبه بمراغة حمار ، تنفست الصعداء ، واعترتني وعكة أمان لذيذة ، ودافئة . صحت ، لقد انتهينا أخيراً .
وكان الليل يمضي .. وريح موغلة في البرودة تعانقنا بعد أن هدأ المطر ، ونحن نعتل المتعة الجاثمة تحت المرآب الطويل في انتظار المفتش . أحد الأولاد أغراه القفص وجاء يداعب الببغاء التي نفشت ريشها هلعاً ، وجعلت تتأرجح في يدي ، بينما رحت أحدق تارة في غيمة نساء سوداء تختفي في الأوتوبيس ، وتارة في البيرق الذي يخفق في الريح كغراب مصفد من مخلبيه .
اشتريت تبعاً ، وجرائد بسعر مضاعف ، وانشغلت بأناقة الملابس ، وعند ركوبنا طرحت بحساب ذهني ثمن الرشوة ، ومصاريف الطريق ، وثمن التبغ والجرائد ،قال لي صاحب التاكسي على سبيل النصيحة : إن وراءك أعمالاً لا نستطيع إنجازها إلا بدفع النقود ، كما يجب ألا تنسى حساب تسديد المخالفات ( !! )وكانت عناقيد الضحى تغمر
الأفق الأزرق فلم أعد بحاجة إلى معرفة الوقت .