عندما كان المذيع يقرأ بياناً مهما عبر الراديو، كنت في الطريق إلى مكة المكرمة، المدينة التي تعوّدت على زيارتها من وقت لآخر. غير أن الصوت المتهدج للمذيع , وبعض من عبارات البيان , دفعاني لتخفيف السرعة بشكل تدريجي ومحاولة التزام الجانب الأيمن في الطريق الذي يحتوي على أربعة مسارات.
"أخبار عاجلة؛ أخبار عاجلة؛ أخبار عاجلة " المذيع قال ، ثمّ أضاف: جاءنا للتو أن قافلة أفيال متوحشة قد أفلتت من حديقة الحيوانات وهي طليقة الآن، الفيلة خطرة جدا ضدّ المشاة والسيارات، وعلى أية حال سنخبركم عن مستجدات هذه الكارثة تباعاً . تمتمت بعد المذيع : حقا هي كارثة , ثمّ مددت يدّي إلى مفتاح الراديو لتخفيض الصوت بعض الشّيء.
وصلت إلى المخرج الذي سيأخذني نحو طريق العودة، عبرت المخرج ثمّ شرعت في الرجوع إلى جدة حيث ابني، وعائلتي. ورجع المذيع ثانية، ورجع صوته المتهدج أيضا : أيها السادة ،يجب عليكم أخذ الحيطة والحذر، قافلة الأفيال ما زالت خطرة. قلت: ليت ابني يستمع الآن إلى المذياع .
ابني يريد الالتحاق ببعثة دراسية في الخارج، وللانضمام إلى هذه البعثة الدراسية في الخارج، يجب عليه أن يقدّم الوثائق والمستندات المطلوبة إلى الجهات المعنية بالبعثات في وزارة التعليم العالي، لذلك هو الآن في وزارة التعليم العالي.... .
قطع المذيع علي حبل أفكاري عندما قال : أيها السادة ، وصلنا منذ بعض الوقت أن قافلة الفيلة تعبر الشارع الكبير في مركز المدينة، وليست هناك أخبار عن أية خسائر تذكر . قلت: اللهم لك الحمد . ثم سألت نفسي: لم يصرّ البيان على كلمة القافلة ؟ أليست كلمة القطيع أكثر ملاءمة منها ؟ ثم لماذا تحتفظ حدائق الحيوان بهذا العدد من هذه الأفيال الضخمة ؟ . هذه الأسئلة المهمة مطلوبة، لكن - والحق يقال - ليس الآن،بل لا وقت الآن للتفكير فهذه الفيلة قد وصلت إلى الشارع الكبير-هكذا المذيع قال- وإذا تحرّكت الفيلة نحو الشمال، فسوف تصل إلى موقع وزارة التعليم العالي وهناك ابني . وعندما تذكرت ابني قلت: أحفظه يا رب وأنت خير الحافظين، ثمّ دست على دواسة البنزين أكثر- رغم مناهضتي للسرعة والتهور- لكن الوقت كان ضدّي، وعلي أن أعمل شيئاً من أجل ابني.
"أخبار عاجلة ". قال المذيع ذلك ثمّ أضاف: أيها السادة ، في الحقيقة وصلت إلينا المعلومات التالية ، تفيد معلومات أولية أن قافلة الأفيال تتكون من أكثر من خمسين فيلاً ، والقافلة تمضي الآن نحو شمالي الشارع الكبير ولم ترد أية أنباء عن خسائر .
شفاهي كانت جافّة وحنجرتي كانت يابسة، رغم ذلك صرخت بحدّة، ' اللعنة، اللعنة على كلّ فيل منفلت في هذا الكون، هاهي القافلة هناك، إنها تتحرك نحو وزارة التعليم العالي، الفيلة القاسية تنتقل إلى وزارة التعليم العالي وهناك ابني. ثمّ سألت بشكل غاضب: خمسون فيلا لماذا ؟ ماذا تفعل حديقة الحيوانات بخمسين فيلا ؟ وإذا كانت حديقة الحيوانات لا تستطيع كبح أفيالها، فلماذا كل هذا العدد ؟
صوت جرس السرعة التحذيري لا يتوقّف عن الرنين، حتى لقد أصبح عنصرا ضمن عناصر المشهد العام داخل سيارتي، ورغم ذلك فإنه يتحول بين الفينة والفينة إلى سكين يستقر في الفراغ المحيط بالقلب.
الصوت المرتجف رجع ليخبرنا عن اقتراب قافلة الفيلة من تقاطع وزارة التعليم العالي, وليخبرنا - أيضاً - عن محصلة الخسائر الأولّية. لذا، قلت:حسنا،ا لفيلة تقترب من وزارة التعليم العالي؛ وأنا أقترب من مدخل المدينة.
في مدخل المدينة، السيارات كانت تتقاطر ثم تتحاشد بشكل تدريجي وهذه سيارتي بدورها تصبح جزءاً من ذلك الحشد ، وعندما أخرجت رأسي من نافذة السيارة، كانت الروائح السيئة تملأ المكان , رائحة الرطوبة ، ورائحة الكربون، ورائحة الأفيال وعندما رفعت بصري نحو الأمام وجدت طابور السيارات طويل ومزدحم ومتكدس .
سألت السائق الأندونوسي الذي كان يقف بجواري : ما المسألة ؟ فلم ينبس ببنت شفه . ترجلت من سيارتي ثمّ سألت سائقاً آخر - قد يكون هنديا وقد يكون باكستانيا وقد يكون بنغاليا - لكنّه لم يجب أيضا.
تقدّمت للأمام ثمّ توقّفت . وقبل الشروع في خطواتي الأسرع, خلعت نعالي وعبرت الشوارع بأقدام حافية ثم أطلقت ساقاي للريح . ركضت وركضت حتى توقفت قدماي على أطراف الميدان الكبير وهناك وجدت اني والفيلة وجهاً لوجه, كانت الأفيال تشكل حائطاً من الرماد والغلظة يفصل بيني وبين ابني.
وبما أن الكون (كلّ الكون) قد بني على الأمل، فقد قررت اقتحام هذا الحائط من أجل الأمل أيضاً ، فإمّا الموت تحت هذه الأقدام الغليظة ؛ وإما العبور إلى حيث ابني ، لابد من العبور إليه سواء كان على قيد الحياة أم كان قد سحق تحت أقدام همجية.