*** كانت هناك في القرية حديقة غناء تحيط بقصر الشيخ . لا أحد يحزر ما فيها من ألوان الأشجار المثمرة . فهذا حكر على سيدة القصر المدللة ، و أبناء الشيخ القائمين على خدمتها . لكن الأشجار على مر السنين ، تمردت و أبت إلاُ أن تتباهى بثمارها المثيرة للعاب ، و تطل بحملها من فوق السياج . الرمان و التين و الطرنج و التكي و الليمون ، كل في حينه . و كان يبدو للناظر ـ بالأخص لولدي (صخيله ) و ابن ( فنديه ) ـ ان حجم الثمار قد لاح شهياً ، و قد تدلى الرمان جراء ثقله ، و حان قطافه . فبات عليهم أن يفكروا و يجازفوا بالتسلل في عمق الليل . و كانوا قد رصدوا : إن الطريق إلى الداخل ، لا يتم إلاّ عبر فجوة الساقية الخالية من الماء . و كان التسلل محفوفاً بالمخاطر . فأبناء الشيخ لن يترددوا بإطلاق النار على من يتجرأ على اجتياز السياج . وقفوا كالعادة على مسافة ، يمعنون النظر بالرمانات ، و التي بدت ناضجة متدلية . قال ابن صخيلة الكبير لابن فنديه : ـ هل تستطيع أن تجتاز الساقية تحت جنح الظلام ؟ قال ابن فنديه بحماس : ـ أستطيع . و لماذا لا أستطيع ؟ هل أنا جبان ؟ فانا سأزحف بطريقة الأفعى ، و أدخل عبر فجوة الساقية بسهولة . و لكن عليكما أن تراقبا جيداً .. هل سمعتما ؟ تراقبان جيداً. فإذا حصل و شاهدتما أحد أبناء الشيخ فإن على أحدكما أن يطلق صفيره لكي أكون على علم بالأمر . عندما مضى الليل إلى العمق ، أخذا الكيس من صخيلة ، التي أظهرت تذمرها من نيتهم فحذرتهم ، و لكنها في الخفاء تحلم هي أيضاً بمذاق الرمان . اقترب الثلاثة من السياج . و عندما اطمئنوا من خلو المكان من المارة ، تسلل ابن فنديه زاحفاً من فجوة الساقية و معه الكيس . علق بثوبه طين الساقية ، التي مازالت مبللة بماء السقي . هذا لا يهم ، سيغسله لاحقاً ... تحرّى بنظره جيداً ، مخافة ان يوجد احد . كان يهيمن على قلبه الخوف من هذا الصمت و الظلام الذي بدا أشد حلكة مما في الخارج . استوى على ركبتيه .. ورفع رأسه ليستطلع يمنة و يسرة ، و هو ينظر لعلوالسياج : إنه لا يستطيع أن يقفز منه لو أجبر على ذلك. و بدا له كأنه قد انقطع عن القرية بكاملها . هل يعود ؟ لكن حبات الرمان قد تدلت و داعبت خديه و أنفه . لاحت له الحديقة مكتضة بالأشجار أكثر مما كان يتصور . و يهيمن عليها القصر العالي بسطوته . فبقي محتاراً . من أين يبدأ ؟ وإن عليه أن يعمل بسرعة . تلمس الرمانات ، فبدت له إحداها رقيقة القشرة و ممتلئة . راودته الرغبة أن يتناول واحدة . لكنه لم يفعل لكي لا يفرط بالوقت . ثابر بقطف الثمار بسرعة و دون صوت ، و هو يلتصق بالشجيرة ، ويتعرض إلى الجروح التي أحدثتها اشواكها . فقد كان عليه ان يحْذر من أذاها . وضع الكيس جانباً و فضل أن يضع ما يحويه في شليله أولاً. ومضى يتنقل من واحدة إلى أخرى ، و هو يواصل القطاف . لاحت له رمانة كبيرة في الأعلى فاقتطفها ، لكن الغصن تحطم و أصدر صوتاً عالياً ، فردد بخوف : ـ خرا بعينك و عين الخلفك ابن فنديه . ربما هناك من ينصت و أنا أفعل هذا . خرا بصفحة موتاك . تحرك بهدوء حتى لا يصدر صوتاً مرة أخرى ، و تريث ليعبئ الرمان في الكيس . كانت الحديقة مكتضة ، و يجد صعوبة في تنقله ، إذ عليه أن لا يترك صوت الأغصان يعلو و هو يمر فيما بينها . إلاّ انه شاهد أشجار الطرنج . كان يفضل أن يصطحب معه لأمه فنديه و لخالته صخيلة . فتحرك سريعاً باتجاه الطرنج ، و امتدت ذراعاه نحو علو الشجرة و اقتطع الثمار ، رغم الجروح التي أحدثتها اشواك الشجرة . لاحظ : أن هذه الأشجار هي أيضاً شائكة و هو لا يدرك ذلك . و كان عليه أن يضع الثمار في الكيس و يعود ليتوغل أكثر . إنه إلى حد ما يشعر و كأنه قادر على الاختباء و التنقل بدون صوت ، و على ممارسة قطف الثمار دون ان يتم رصده . عثر بساقية أخفتها الأدغال فردد مع نفسه : ـ عمى بعينك . إي و الله . كيف لم تشاهد ذلك ؟ كان يشاهد الباب الخلفي للقصر ، وكأنه قد أصدر صريراً لينفتح ، فخارت قواه ، و كاد يتهاوى . لا يدري أهو الصوت من الباب أم من داخل القصر ، فرأى من الأفضل له أن يعود للأشجار الكثيفة و القريبة من الساقية . أفرغ ما في شليله في الكيس ، و هو لم ينقطع عن بكائه : ـ كيف سمحت لنفسي بهذا ؟ . وجد : ان الكيس يكاد أن يصعب عليه تمريره من فجوة الساقية . و أن الوقت قد تطرف . و لم يسمع بصفير الإنذار حتى يقلق . غير أنه فجأة لاحظ أحدهم و قد رفع رأسه من فوق السياج ليتحرى في البستان . زحف مسرعاً ليلوذ تحت كثافة الشجرة ، و قلبه يضطرب . ـ إشتوى ابو فنديه.. هذا ابن الشيخ يراقبني من خارج السياج . يمكن سمع الغصن الذي تحطم . تكرر تحري الرأس من فوق السياج مرة ثانية و اختفى سريعاً . ـ راح انلزم ، اللعنه على أبيك فندية ، لمن خلفتني ؟ راح انلزم .. ما الذي خدعني ؟ لمَ لم يأتِ أحدهما بدلاً عني ؟ اختفى عميقاً و سحب الكيس بهدوء خلفه ، و غطّاه بالأغصان المتدلية . و مكث على هذه الحال . فجأة .. سمع وقع أقدام بين الأشجار تهرول باتجاهه ، و توقفت قدمان يكادان أن يمسّا جسده ، و كادت عباءة أن تلامس وجهه . كانت فتاة تضحك بصوت منخفض . سمع أيضاً صوت علي إبن الشيخ يهمس للفتاة : ـ هيّا .. جمّاره ، إخلعي فوطتك واعطني قبلة هناك . ـ و تعطيني رمان؟ همس ابن فنديه مع نفسه : ـ جمّاره بنت نوشه . قال لها علي ابن الشيخ هامساً : ـ ليس الآن . سأعطيك كل الرمان فيما بعد . ألآن ينبغي أن نحذر من زوجة أبي . فأكيد لو التقتكِ و أنت تغادرين .. ستفتشك . ـ واحدة . فقط واحدة ههههههه . ـ ... كان يحتضنها و يقبلها عدة مرات ، و يمرر اصابعه تحت فوطتها ، و يبسبس معها : ـ ما هذه الرائحة الطيبة ؟ ـ قرنفل . ههههههه. ـ جمّاره .. دعينا نجلس هنا قليلاً . إجلسي .. هيا ، إجلسي تحت هذه الشجرة . ـ لا فدوة لا. دعنا نخرج . فقد تطرف الليل و ستفقدني أمي . بينما كان ابن فندية قد فقد السيطرة على بوله و ساح بين فخذيه . و بعد ان قضى ابن الشيخ وطره بالقبل امرها : ـ هيا .. تعالي خلفي لنتأكد من خلو الطريق و نخرج من الباب الخلفي . ـ و لكنك لم تقل .. متى تتزوجني ؟ ـ أتزوجك حتماً .. و سأقول لك متى ، فيما بعد . ـ قل .. والله ؟ ابتعدت خطواتهما سريعاً ، و جر ابن فندية نفساً عميقاً و هو يذرف دموعه و يقول : ـ اللعنة . كدت أخرّي بثيابي .. فأمعائي ما زالت تخبط . *** في خارج السياج كان ولدا صخيله قد استبطآه كثراً . ثم عادا مرة ثانية ليقتربا من السياج ، و جلس الكبير ليصعد الآخر مرة أخرى على كتفيه و يتحرى سريعاً عن صاحبهما . فهمس الكبير : ـ هل شاهدته ؟ ـ لم أشاهده . و بدا لهما : أنه قد يكون حدث له مكروهاً . و قررا أن يبتعدا أكثر و ينتظرا . كان الأمر قد اختلط على ابن فنديه و تصور أن ذلك هو أيضاً ابن الشيخ . فربما ـ في هذا الوقت المتأخرـ لا مانع لديه أن يطلق النار عليه و يرديه قتيلاً. *** عادا الأخوان و كررا عملية التسلق بجانب السياج للبحث عنه و ظنّ ابن فندية : إنه قد نصب له كميناً خارج السياج . و لكن أين ذهب رفيقاه ؟ لماذا لم يصفرا . أما كان الأجدى بهما أن ينفذا وعدهما ؟ ربما انهزما و تركاه وحيدا ؟ و استمر بالبكاء . مالعمل ؟ من أين يخرج . إن عليه أن يختفي ، و لا يبدي أي حركة . فأي حركة خافتة ستؤدي إلى طلقة في الرأس . إنه حتى لو تم الأمساك به . سيقول لهم : ـ أن ولدي صخيلة هما اللذان خدعاه و دفعا به دفعاً ليَنْفذ من ثقب الساقية ، ليكون في قلب الحديقة . ـ أنا لا ألقي بما قمت به فقط على نفسي . ولدا صخيله هما اللذان دفعاني دفعاً إلى هذا . تكور داخل الأدغال كاتماً أنفاسه و استمر يراقب وهو يذرف دموعه . بينما عاد الأخوان . ليصعد الصغير على كتف أخيه و يتمعن بالبحث . ردد ابن افندية با كياً . ـ ها هوذا ، ها هو ابن الشيخ ما زال يبحث ، إن أمعائي تخبط و أكاد أفعلها . كان الرأس قد جال من فوق السياج يتحرى في كل جانب ثم اختفى . ـ انتهيت . ويلكِ يا أماه تعالي لابنك الجحش الذي ورطاه بهذه البلوى . إنتهيت .. انتهيت . كان ابن افنديه يمكث طويلاً باكياً ، و ينصب إذنيه لكي يتسقط ما يجري ، ثم فجأة لاح له أحدهما يتحرى . و من خارج السياج ، يئس الولدان، دون أن يستدلا على مصير صاحبهما . مضى الوقت .. و ابن فندية لم يتسلل . و كان الخوف يستحوذ على قلبَيْ الأخوين ، فالمشكلة ستكون وبيلة عليهم جميعاً وعلى آبائهم . قال الكبير و هو يقتله القلق : ـ أين ولّى هذا الجحش ؟ و عندما فقدا الأمل عادا أدراجهما إلى البيت ، و ظلا في حيرة .. ماذا حدث ؟ هل أمسكوا به . كان الإثنان قد قرفصا في فناء الدار و ظلا يفكران بالأمر . و بعد أن يأسا تماماً لجآ للفراش و هما يفكران بقللق . مالذي حدث له ؟! سألتهما صخيله : ـ أين صاحبكما ؟ ـ لا نعلم . إنه لم يعد بعد . غمّت بكلتا يديها وجهيهما و قالت : ـ فلك طرَّكما . ماذا فعلتما بابن المرأة ؟ سنبتلي من وراء فعلتكما . هل هو يسكت ؟ سيقول انكما معه . ما هذه المصيبة التي جلبتماها . بعد أن مضى وقت طويل و الأم تفرك بيديها ، وتواصل لومها لهما ، و إذا بالباب يندفع بقوة . صاحت المرأة مرعوبة : ـ ما هذا ... ؟ بعد لحظات بان ابن فندية على اعتاب باب الكوخ لاهثاً و هو مثقل بالكيس . صاحت صخيله : ـ هاته . وضعته صخيله في السدانة(8) و أغلقتها . قالت له : ـ فلك طرك و طرّ امك .. هل شاهدك أحد ؟ ـ أتيت بالنهير . لم اترك لأحد أن يشاهدني . قال له الكبير : ـ أين كنت و نحن متنا من الانتظار ؟ ما هذا الطين و هذه الرائحة ؟ قال و هو يسب و يشتم بأقسى الكلمات : ـ لقد بِلْتُ على ثوبي . خفتُ من أبناء الشيخ و هم يراقبوني لعدة مرات من خارج السياج ؟. كان يطل احدهم برأسه عدة مرات بحثاً عني لآن الغصن الذي انكسر أصدر صوتاً فسمعوه . أين كنتما ؟ لماذا لم يصفرأحدكما؟ استغرقا بالضحك و قال الكبير : ـ الذي يطل برأسه هو أخي أيها الجحش ، قلقنا عليك لأنك تأخرت كثيراً. قم و اذهب إلى الشط و اشطف ثوبك و لا تجلس و أنت نجس . قال ابن فنديه : ـ سأغتسل و أعود إليكم لأروي لكم حكاية كبيرة شاهدتها . ***
1/6/2017