الضنى ناقوس يطرق صدر العشق .. ويحدثنا عن لوعة الغيوم التي لا تمطر .. فعلى هضاب الشجن تجثو بقايا الصبابة ، صبابة الغصن الطري ، بل صبابة طائر ، نالت جناحه رصاصة ، فترنح حتى وقع .. وقد هجرته الأسراب إلى بلد بعيد .
تلك هي حالته التي ترك عليها !! بعد أن تقاسموا فتات الشوق ، وبعد فترة طفولة دامت طويلا تفقوا عنه .. حتى السبل تفرقت به .. فتارة يلهو عازفا لألحان الشجن .. وأخرى على قراءة الروايات المطولة.
والسنين أشبه بخيول تراكضت على مضمار السباق .. فمضت سراعا .. وغابت عن النظر ، والنظر لا يتبع الفائت.
ذات يوم جميل ، كان يكور الثرى ،ويراشق به أقرانه فظللتهم غمامة عابرة ، ركضوا تحت ظلها وهم يرددون أهزوجتهم:
_ غيثي ..غيثي .. يا أم الغيث
_ صُبي ماك واسقينا
رغبة في أن تمطر عليهم .. فأمهاتهم يتوعدونهم بالحلوى إذا أنشدوا للسحب فأمطرت .
مضوا وأبصارهم عالقة في السماء ، حتى وصلوا سوق القرية .. استرعى اهتمامه فتاة تجلس في حجر السوق ، تبيع الحلوى .. عليها طيف يحمل ألوان البؤس .. عيناها وطن حالم .. شفتاها تخيلك سماع أغاريد ممزوجة بنشوى الحب .. تتبسم عن ثلوج تضمد لهيب الوله .
وعندما أمطرت السماء ، تقفتهم بخطوات شاردة ، وبقلب عالق الهوى الطفولي البريء ، ونثرت عليهم الحلوى قبل أن يصلوا لأمهاتهم .
.. هنا في خضم القلق القروي ، انطلقت صيحة العشق .. انطلقت صيحة العشق العنيد الذي لا يرعوي عن سفوح الجبال , ولا يتثنى عن جبين الكون.
تجرع هذا الفتى حبا يكنفانه المطر والحلوى.. فنمى على سكوت يناطق الخاطر .. ويستدرج وسوم الأخيلة ، صار يعشق الجلوس على الشاطئ.. بل يحادث شمس الأصيل .. ويكتب خطرات تقلق مضجعه .. ويتوق لرؤية البدر.. والظلام يزفه من مطلعه إلى مغربه .
تتجدد في عينيه ورود وتذبل أخرى ، وعقارب الزمن تتراقص أمام ناظريه كإزراة بيانو ، يطلق أنغام الحزن والفرح من مكان واحد .
خرج يوما إلى البر في مهمة عسكرية .. وبينما هم في مناوراتهم التدريبية .. تفرعتهم السحب وهي تسير شرقا.. وقف مشدوها ، كحاكم نزعت السلطة بين يديه.. سقطت بندقيته من بين يديه .. خلع قميصه العسكري أخذ يلوح به .. وانطلق يسابق السحب .. وتركهم ذهول !! يتأملون صنديدا اضطره العشق للركض تحت الغيوم .