*** كان جدي يقول : إن نظرة الأبكم هي التي تجعل البلح حلوا وناضجا ، فتتجه عيوننا صوب أمي التي تدرك بغريزتها أنها موضوع الوشاية . إلا أن جدتي تصطاد اللحظة رغم أنها مثل كل الفلاحين الذين يعتقدون بهذه المعجزة لتتشفى من هذا العجوز قبل أن تداهمه نوبة الزهايمر وتسأله لماذا يصر منذ أربعين عاما على إنكار أنه هو سبب العاهة . أنت الذي كنت تتكلم حيث يجب أن تشتغل بصمت ، وتصمت إذا وجب الكلام ؟! يرمقها بنظرة طويلة ، أكثر من كل المرات الماضية ، فتوشك أن تعاوده الأعراض الأولى ، يظهر ذلك من خيط لعاب يسيل من زاوية فمه ، ولكنه يبدو متماسكا وهو يقول : الرجل إذا اهترأ سلاحه تبدأ النساء بالتهكم عليه . وفجأة كف عن الكلام كما لو أنه تلقى طعنة قاسية ألقته في الظلام وانبرى يغني بصوت مجهد ليتسق مع اللحن بداخله : بيت الشعر يا الدوني تحتك عشيري نايم !! وحاول بلا وعي أن يثب من مكانه إلا أنها طوقته بذراع واهنة وكادت لولا وجود ابنتها البكماء أن تجهش بالبكاء . كان مشهدا دراميا ثنائيا مشحونا بألغاز منيعة على إدراكي ، وعصية على أمي الجالسة إلى آلة الخياطة تنقل عينيها وتحاول ترجمة الإيماءات بينما تبلل خيط النول وبحركة مدروسة تنظمه في الإبرة وتدير بيدها البكرة المعدنية وبيدها الأخرى تكسر حواشي القماش المتجعد كموجة متجمدة دبت للتو فيها روح البحر . كانت تقوم بذلك على نحو فريد كتعويض أكثر بلاغة من كل الكلمات . هكذا تتكلم على طريقتها وتريق دموعها الصامتة مع خطوط النول وتخيط جراحها وتغلق على أسرارها بأزارير لامعة محكمة ، وتعرف متى تضع في غضون الثياب وردة أو شوكة أو فكرة أو تنهيدة ، وكنت أحيانا أسمعها تغمغم بأغنية غامضة تحشو بها جيوب ثوبي العائم تحت ضربات الإبرة فأقوم بمجاراتها وأحرك يدي بلغة الإشارة ، وهي تحرضني على مشاركتها مهاراتها الخارقة . كانت تغني بأصوات غير واضحة تماما وكانت بهذه الطريقة تخفي عاهتها . تمضغ هذه الماعز المعدنية لفافات القماش ثم تبدأ بالثغاء لتخرج من أحشائها معطفا أو تنورة أو قميصا أنيقا بحواف مسننة أو طاقية مقصبة تشبه تلك التي يجلبها الحجاج . بينما أمكث لساعات أراقب حركات يديها المتقنة ، وأغني : جينا من الطايف والطايف رخا والساقية تسقي يا سما سما وهي تبتسم ابتسامة بيضاء تشبه وردة فل تدوم في الماء كأنها تسمعني وكأن صوتي الطفل يعود وترا يشدني جنينا إلى أحشائها . كانت مكنة الخياطة توأمها وسلواها إذا فرحت ذهبت لتحيك الملابس وإذا شحبت ملامحها في لحظة حزينة لجأت لتطفىء حزنها بالخياطة والغناء ، كانتا هي والمكنة تتقاسمان العمل الإبرة تشد الخيوط والبكرة تدور وهي ترسم بالغناء التفاصيل وتكوي التجاعيد . أصبحت بمرور الأيام أعرف مزاجها من الشكل النهائي للملابس ، وبقايا الأقمشة الفائضة التي تشكل منها مفارش صغيرة أو ترقع بعض الرتوق أو توشي بها الوسائد أو تحشو بها الدمى للبنات ، وكنت أرى في خطوط الحناء الحمراء على كفيها طرقا كلما أويت للنوم تسرو بي بعيدا وتسرد لي القصص بإيماءاتها المشفرة وأترجمها من وحي خيالاتي . تصنع القرويات عقدا بأطراف مناديلهن يستخدمنها كذاكرة أخرى ، لمساعدتهن في ضبط مواعيد الصلاة والأدوية والبحث عن المفقودات لكن أمي كانت آلة الخياطة لها الذاكرة والصديقة وحصالة النقود وبيت الأسرار وصندوق الأغاني وعربة الزهور ومنبه الصلاة وهي لاتحيك الثياب فقط بل تعيد بخبرتها في رسم المقاسات ترميم الأجساد المترهلة وإعادة إيقاع الحياة إليها عبر هذا الأزيز الناعم . قد أعثر على اللغز المخبوء في جملة جدتي التي بقيت عالقة كالقرط المذهب في أذني ؛ (( أنت الذي كنت تتكلم حيث يجب أن تشتغل بصمت ، وتصمت حين يجب الكلام )) فقد يتذكرها جدي في إحدى نوبات المساء ويفتح لي أزارير الحكاية ، لكن المؤكد أنه على صواب ، فنظرة الأبكم هي وحدها التي تنضج البلح وتريق السكر في العذوق وتضع للحمام المشرد في الشبابيك الريش الناعم والقمح والهديل . ***