لم أتحقق حينئذ من الساعة كم تكون ، فلا بصري بقادر على تفرس عقاربها ، ولا أرقام شاشة هاتفي الجوال بقادرة على التوهج كي أراها ، غير انه وفي لحظة ما ، حانت مني التفاتة نحو السماء ، لأرى منكب الجوزاء قد هوى أو كاد ، عندها ضممت جراب نومي أكثر إلى جسدي المتهالك ، وأدركت أن الليل في ثلثه الأخير .
رباه ، انه الهزيع الأخير من الليل حقاً وصدقاً !! هذا معناه أن عينيّ قد استسلمتا للنوم على مدى ساعتين كاملتين ، أو قل : هي الحمى – لحاها الله – قد أسلمتني للنوم ، وربما كان الإرهاق هو من يقف وراء مثل هذا الاستسلام المهين وليس الحمى ، بل هو الإرهاق بالفعل ، هو الذي كاد أن يجعلني افقد عينيّ وجربنديتي في هذه الحرّة المحروقة ، إذ لو داهمتني البرطأونات أثناء نومي ؛ لكانت عينيّ الآن في خبر كان !!
*******
هذه الحرّة ،تجثم على رقعة واسعة من الأرض في منتصف المسافة بين هجرتي القشوب و ملاح ، وهي أرض مجدبة تغطيها الغرابيب السود ؛ فتبدو للرائي وكأنما هي أرض ملعونة ، ومن يدري ؛ فلربما كانت أرضاً ملعونة بالفعل !!
مخيفة هذه الأرض المحروقة ، وقاسية هي الحمّى التي ثوت بي هنا رغم انفي ، وكنت قبلا أمر بها على عجل !! هل قلت : الحمى ؟؟ أي هذيان هذا ؟؟ لا ، لا .. ليست الحمى بل الإرهاق ؛ إرهاق القيادة في طريق كئيب موحش يمتد كلعنة سوداء بين هجرتي القشوب وملاح ، عبر الحرة ، عبر الأرض المحروقة ، والآن هاهي سيارتي متوقفة هناك وهاأنذا أتشرنق داخل جراب الجربندية أنتظر جحافل البرطأونات في الهزيع الأخير من الليل .
******
البرطأونات !! تلك الكائنات الدقيقة المتوحشة التي لا يمكن لعقل إنسان أن يتخيلها ، ولا لقلم كاتب أن يصفها ، لكنها موصوفة بالشراسة ، ومعروفة بالتكاثر غير المنطقي ، وبالتوهج كذلك ، إنها متوهجة جدا ، وعدوانية أيضا ، فإذا ما ظفرت بآدمي بادرت إلى حرق عينيه ، تحرق عينيه حرقاً ليرى الأشياء بعد ذلك متوهجة ، بل ليدخل في فراغ هائل من الوهج المخيف .
لابد أن يداخلني خوف شديد من هذه البرطأونات ؛ بل قد استبد بي الخوف منها فعلا ، وبخلاف خوفي على عيني الثمينتين فإنني أخاف أيضاً على جربنديتي ، إذ لو تمكنت هذه البرطأونات الماكرة من حرق عيني فلسوف تحرق جربنديتي أيضا ، وهي جربندية عزيزة علي ، فيها جيوب لا تعد ولا تحصى ، أخبئ فيها أوراقي وأقلامي وختمي وخبزي وأمتعتي ، وفيها – وهذا لا يقل أهمية عما ذكر - فيها جيب طويل يبتلعني كلما رغبت في النوم .
*****
التفت باتجاه اليمين ، رأيت خيال صخرة حدباء كأنما هي حرباء كبيرة قد مسخها الله حجراً ، فقلت لنفسي : لو استندت على مرفق يدي اليسرى ثم رفعت جسمي عند المنتصف ثم حركته يمينا ، وهبطت هناك ، لتزحزحت مسافة تقربني أكثر من تلك الصخرة الحدباء ، فإذا استلقيت بجوارها فقد ضمنت لنفسي حماية أفضل ، تقيني شر البرد وشر البرطأونات .
استندت على مرفق يدي ليسرى ، ثم رفعت جسمي عند المنتصف ، وحركته يمينا، ثم استندت على مرفق يدي اليسرى مرة ثانية و رفعت جسمي عند المنتصف و حركته يمينا ثم هبطت بتؤدة ؛ لأجد جسمي قد التصق بتلك الصخرة الحدباء ممدا بجوارها ، ومثل إبرة بوصلة كان جسدي يشير إلى الشمال !
****
عندما تأتي جحافل البرطأونات ستعبر الحرّة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ، وربما عبرت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، وهذه لاتهمني مادمت قد اتخذت وضعا مناسبا ، وعندما تنثال على جسدي وتشرع في نزع وتر آخيليوس من عقبي اليمنى عندها تكون حربي معهم قد بدأت .
***
إن نزع وتر آخيليوس من عقب قدمي اليمنى لن يكون أمرا هينا ، سيكون عذابا لوحده ، غير أني سوف أتجرع مرارة الصبر وابدأ الحرب ، وهي حرب سهلة جدا لا تكلف شيئا ، ولا تستغرق وقتا ، يكفي أن أحرك قبضة يدي اليمنى ، أمام عيني اليمنى ، حركة دائرية باتجاه حركة عقارب الساعة ، وأن أحرك قبضة يدي اليسرى ، أمام عيني اليسرى ، حركة دائرية باتجاه معاكس لاتجاه حركة عقارب الساعة ، وأن أصرخ بصوت يتدرج نحو الأعلى : ياه ... يااه ... ياااه .. يااااه .. ياااااه .. يااااااه .. ياااااااه .. يااااااااه .. ياااااااااه .. يااااااااااه .. ياااااااااااه .. ياااااااااااه .. ياااااااااااااه .. يااااااااااااااه ..