[color=darkblue]وسط المدينة : حيث تعج الساحةالعام بالسيارات ، و الناس ، و ضجيجهم ؛ و بالقرب من المسجد الكبير المرتفعة مآذنه بعلو شاهق ، حيث تقع هناك عمارات كبيرة : حديثة و لامعة الزجاج ، و هي أماكن لأكثر من دائرة حكومية ، إذ يدخل رجال كثيرون ، و يخرج كثيرون من أبوابها : موظفون هم أو مراجعون .
كالمعتاد ، كنت وسط هذا المكان ، أقف ، و تقف المرأة أمامي ، و قد وضعت خشبة تشبه الميزان ، إحدى كفتيه ناحيتي ، و الأخرى ناحيتها .
نظرت إليّ بثبات و قالت :
- أنت .. لا تسمح لي أن أخرج من البيت !
إصبعها كان يتجه نحوي : ( هذه زوجتي .. زوجتي الحبيبة تقول لي هذا ! ) .
قلت لها :
- نحن الآن وسط المدينة !
( ربما أدركت أنني لا أريد بحث الموضوع ) .
صاحت :
- ولكنك تمنعني أن أخرج من البيت !
( هذه المرة وجه أختي الحبيبة ) .
قلت :
- لا تقولي هكذا .. فالأمر ليس عندي !
( أحسست بالحزن و الخذلان ) .
ردت :
- بكل الوسائل ـ أنت ـ تغلق علي الباب .. باب الغرفة ، و تأخذ المفتاح .
( وجه حبيبتي المشرقة ، عيناها واضحتان ) .
قلت مازحاً :
- و لماذا لا تكسرين القفل ..مثلاً !
و ضحكت ضحكة صغيرة ، لكنها قالت على الفور :
- و لماذا تضع القفل ، و تغلق الباب أنت ؟!
( أنت ) .
إصبعها كان يتجه نحوي كالسهم ..
( عاودني الإحساس الأول ) .
لم أردّ ..
واصَلَت بصوت حاد :
- و لماذا يغلق أصلاً ؟!
( كانت حروفها تخترقني ) .
سكتُّ قليلاً ، و لما لم أتكلم ـ سوى بحركات مضطربة من عيني ـ قالت بصراحة :
- أنت .. أنت لا تعطيني الفرصة ، أنت تلغيني .. أنت تقتلني إذاً !
إصبعها كان يتجه نحوي كالسهم ..
( هل أقول بأن الأشياء لا تأتي هكذا .. مجاناً ؟ ) .
صمتنا ، و كنت أنكس رأسي .
( عيناها كانتا مسلطتان .. على داخلي بالذات .. ) .
التفت إلى المبنى الكبير ، و انفجرت بالضحك ـ لمحت دهشة عينيها أثناء ذلك ـ استمر
ضحكي بشكل هستيري يشبه البكاء .
( و حقوقي أنا أيضاً ! ) .
شعرت بمرارة فمي ..
( وظيفتي هنا .. ربما فهمت ذلك ، تباطأت حركة كفتي الميزان ، حتى استقرتا معتدلتين ) .
مددت يداي لها ، و مدت يديها لي ..
( يا للفاجعة : فهي ـ أيضاً ـ بدون وظيفة !! ، بدون وظيفة أصلاً !! ) .
أخذ الدوار برأسي ، ارتفع صوت المؤذن ، و اندفع أناس صدم أحدهم الميزان دون أن يدري ، فارتبكت الكفان و الكفتان ، كان بسيط الهيئة ، لكنا سقطنا ـ أنا و هي ـ في كفتي الميزان ، و قد أغمضت عيني في تلك اللحظة .
أقبل شاب و شابة ، لها وجه مثل الصحراء يضيء ، و وجه الشاب يشبهها ، ربما هو أخوها ، أو حبيبها ، أو هي زوجته ، انحنيا علينا ، و أخذانا إلى صدريهما .. و انطلقا بنا .. حيث اتضح لي أنني أنني أنا الذي يتكام ، و أن الصوت المسموع صوتي ، و أنها هي التي تطالبني ، و لست أنا ، أو ليس أياً منا ـ أنا و هي ـ يطالب الآخر بما له ، و يطالب .. له .
( هذا الجو الربيعي يظهر فيه قوس قزح ) .
و عندما فتحت عيني ، كانت عيناها مفتوحتان ، صارمتان ، تحدقان في ، و تذكرت أنها ـ هي ـ و أثناء حوارنا ـ كانت ـ تتصلب قسماتها أحياناً ، و تنبسط أحياناً ، و أحياناً تبتسم .
( رجل و امرأة يعيشان في مكان واحد .. معزولان عن بعضهما ! ) .
هالني هذا ، أخذ الدوار برأسي ، و عادت الصورة للوضوح :
المباني اللامعة ، الساحة ، الميزان ، و الجامع ، الرئيس وعمله المستمر .
أحسست أن الشابين يبتعدان ، لمحت بسمة مضيئة تنطلق من ( عيونهم ) ، و هما ينعطفان مع شارع جانبي مترب .. بدا الضوء فيه باهتاً ، و البيوت طينية . نظرت إلى المرأة فرأيت عينيها .. لا تزالان تحدقان فيّ .
( سرجان يضيئان الليل ) .
أغمضت عيني .. فيما صوت المؤذن قد أخذ يتلاشى ، بصوت حزين ، و طويل عبر المئذنة . [/color]
الظهران 12/2/1400هـ ـ 31/12/1979 م